قصة حقيقية لاحدى المتعايشات مع فيروس نقص المناعة البشرى , و لكنها لن ترويها هى لأنها بين يدي الله فقد رحلت بعد معاناة مع كل البشر...ماتت بسبب الإصابة بحصاوى فى المرارة... جراحة سهلة وبسيطة امتنع عن إجرائها الجراحون فهى بالنسبة لهم ميتة لا محالة لأنها متعايشة مع الفيروس"
توفى زوجها اثر إصابته بفيروس نقص المناعة البشرى و كانت العدوى قد انتقلت إليها. وحين علم أهل زوجها بحاله وبسبب وفاته وعرفوا أن زوجة ابنهم هي أيضاً مصابة ، وجهوا لها كل الاتهامات بأنها هى من نقلت العدوى إليه. فهم يأبون أن يصدقوا العكس , وتطاول أهل الزوج عليها بالضرب والإهانة وحرمانها هى و أولادها الثلاثة من الإرث الشرعي.... كان عزاءها الوحيد أن أبناءها ليسوا متعايشين مع الفيروس, وكانت تنسى كل تعب ومهانة حين ترى أولادها بخير. الا أن الأمور لم تقف عند هذا الحد , حيث اجبروها على الرحيل من البلدة و ترك أولادها , اعتقاداً منهم أنها قد تنقل إليهم الإصابة إذا عاشوا معها.
و بالفعل رحلت إلى مكان أخر وصارت غريبة و وحيدة فى أرضٍ غريب , فها هو ولدها أجبره عمه على ترك المدرسة ليعمل ميكانيكى معه , فكيف لهم أن يطعموه دون مقابل !! وعملت إحدى ابنتيها كسائقة على "توك توك " حتى تستطيع كسب عيشها ... وتكتمل المأساة بأن أصيبت الإبنة في حادث جعلها غير قادرة على العمل . أما الابنة الأخرى سرعان ما طلقت بعد زواج قصير عندما علم زوجها أن أمها متعايشة مع فيروس نقص المناعة البشرى ....
هو ذا لم تقتصر يد الاصابة والتعايش مع الفيروس عند المصابين فقط بل امتد الأثر و الوصم و التمييز الى الابناء أيضاً ! أى منطقٍ هذا ! أى حكمٍ جائرٍ هذا ! و كأن الآباء قد زرعوا الحصرم و الأبناء هم الذين يتضرسون, و كأنه ذنباً أبى المتاب فالتصق بالجميع .
حاولت الأم أن تبدأ حياتها الجديدة بمشقة وعناء فلا أهل ولا زوج ولا ولد تأنس له. فقط ما تحمله بقلبها من زكريات هو ما تبقى لها , و في المكان الجديد لاحقها أهل الزوج المتوفى وصاروا يتحاكون عنها و يشون بها و يقذفونها بجارح الكلام ، مما دفع أهل البلدة التي أوت إليها إلى محاربتها و حرق ملابسها و كأنها وباء يريدون التخلص منه , أو دنسٍ رغبوا فى التطهر منه.
لم يكن أهل القرية فقط هم القضاة الذين أدانوها بل حتى بعض رجال الدين في القرية ممن كانوا يمنون عليها بالمال , عندما علموا بمرضها منعوا كل صدقة توجّه اليها ... أى جرم ارتكبت حتى تعامل بهذه الطريقة ؟ أى خطية فعلت حتى تدان من الجميع وتلقى كل هذا العقاب ؟ ...فقط اسم مرضها هو تهمتها و إدانتها وذنبها , رغم أنها كانت في علاقة أحلّها الله , فهي كانت زوجة لرجل واحد , و لم تعرف غيره .
ظلت هكذا تعانى الأمرين ما بين ألمها الجسدى من تعايشها مع الفيروس و ظهور أعراض للمرض وبين ألمها المعنوى من وحدتها و نبذ الجميع لها و رفضهم و لوعة فراق فلذات كبدها , حتى أتى اليوم الذى كانت تعانى فيه من حصاوى بالمرارة و تحتم اجراء عملية جراحية لها , الا أن ضميرها الذى ما زال بغير عطبٍ أبي ألا تخبر الطبيب عن حقيقة تعايشها مع الفيروس , و كان المقابل على النقيض , رفض الطبيب اجراء الجراحة لخوفه من انتقال الاصابة اليه , تاركاً اياها بين آلامٍ مبرحة لا يعلم لوعتها سوى خالقها , فالله لم يخلق دموعنا عبثاً لأنه أدرى بلوعة الألم .
بالفعل ماتت نتيجة حصوة في المرارة , الا أن هذا لم يكن هو السبب الحقيقي وراء وفاتها بل بالحرى نتيجة قسوة وإدانة الجميع لها وعدم رحمتهم بها. رحلت عن عالم طالما ذاقت فيه الكثير من الآلام إلى من وحده يخفف الآلام .... رحلت بعد عناء مع كل البشر.. لتجد راحتها عند بارىء البشر .
أخيراً وليس بآخر , لن تنتهى هذه القصة ولن تكون هى الأخيرة ما لم تتغير قلوبنا قبل عقولنا , و نتزكر دائماً أننا جميعاً معرضين لذلك فكلنا مسئولين , فهى وان رحلت فهناك المئات بل الآلاف ما زالوا فى بلدنا يعانون, فلقد آن الأوان أن نتغير و نتخذ خطواتٍ حان وقتها قبل فوات الأوان , ووقتها لن يجدى أى ندم أو ننتفع من بكاءٍ على لبنٍ مسكوب , كفانا غرساً لرؤوسنا فى الرمال , وكفانا ترنحاً بين أطلال الأوهام التى تقول ليس هناك متعايشين يعانون , ليتنا نفيق قبل فوات الأوان ! و نرى الحقائق بغير زيفٍ و نفتح عيوننا التى تأبي أن ترى ما يزعجها و تفضل الهرب من الواقع الى عالمٍ من خيالٍ زائفٍ يقول إننا ما زلنا بأمان و فى منأى عن الخطر , فلنقدم الرحمة اليوم حتى نُرحم غداً , و لا ندين اليوم حتى لا نُدان غداً , ولا نحكم اليوم حتى لا يُحكم علينا بما لا نطيق غداً.